السياسات الاقتصادية السليمة تترك أثارا ايجابية على المدى الطويل ولا تميز بين شريحة من المواطنين وآخرين· كل الحكومات تقوم بسياسات خاطئة وصحيحة، والمهم أن يكون عدد الثانية أكبر· ان تقييم أي سياسة اقتصادية يتطلب الكثير من الوقت، أي يجب انتظار الانعكاسات الطويلة الأمد التي ربما تأخذ سنوات لتظهر· من الصعب تقييم مشروع الوزير بولسون بشكل نهائي اليوم بالرغم من تأثيره الايجابي الآني المتوقع على أسواق المال، بل يجب انتظار التأثيرات البعيدة المدى لاعطاء رأي موضوعي فيه· المهم أن لا تكون انعكاسات المشروع ايجابية على قسم من الناس وسلبية على القسم الآخر كما حصل مرارا عدة في الماضي· فعندما تستعمل أموال الضرائب لشراء أصول مصرفية متعثرة أو سامة، يجب تطمين أصحاب الأموال الى سلامة التوظيفات وكيفية وشروط استردادها· لا يمكن، بل من غير الأخلاقي، أن يكون المواطن الضحية بينما يفر المسؤولون الاداريون والمهنيون عن التعثر مع مكافآت مالية سخية لا يمكن للعقل والمنطق والحق تبريرها·
أظهر الأميركيون بالرغم من كل شيء قدرة كبيرة على حل مشاكلهم المالية بنفسهم ضمن المؤسسات والقوانين· كل المؤسسات ووسائل الاعلام والسياسيين مهتمين بقساوة الأزمة وتأثيراتها، والمدهش هو مستوى النقاش العالي ومهنيته حتى بين السياسيين· تمر الولايات المتحدة بظروف دقيقة تؤثر ليس فقط على حاضرها وانما خاصة على مستقبلها ودورها في الاقتصاد الدولي· أظهرت المؤسسات الأميركية جدية كبيرة في معالجة الواقع ومحاولة ايجاد الحلول المناسبة· تم كل هذا ضمن نظام ديموقراطي ما زال يتمتع بمرونة وحيوية واضحتين·
ليس من السهل الاتفاق على حلول لأزمة دقيقة معقدة مع الحفاظ على أجواء الحرية والنقاش العلني المفتوح لكل التحديات· في لبنان مثلا، لم نستطع ايجاد حلول لأزماتنا الداخلية المتنوعة، بدءاً من المال الى الاقتصاد والسياسة الا عبر وساطات ومساعدات خارجية وعموما أيضا بعد حدوث توترات أمنية دقيقة· كذلك هو حال معظم الدول النامية والناشئة في شرق أسيا وشمال أفريقيا وأميركا اللاتينية·
نتج عن الأزمة المالية الحالية وقائع كبيرة أولها غياب مصارف الاستثمار المستقلة بعد سنوات طويلة من الابداع في الأسواق·
المعروف أن هذه المصارف تستعمل مواردها الخاصة للقيام بأعمالها المتنوعة بدءاً من الاستشارات التقنية والمالية الى تأمين التمويل للشركات الى تأسيس شركات جديدة وغيرها· أما المصارف التجارية، فتتمول من الودائع التي تقرض بفائدة أعلى وبالتالي تحقق أرباحا مضمونة اذا أحسنت اختيار المقترضين· كما أن تأميم أو انقاذ أو افلاس عدد من الشركات كاللتين تتعاطيان بالسندات العقارية والتي بلغت أصولهما حوالي 1,8 ألف مليار دولار ومصرفان استثماريان هما <ميريل لينش> و>ليهمان> مع أصول تقدر ب 1,5 ألف مليار دولار وشركة التأمين الكبرى AIG وأصولها البالغة الف مليار دولار· لا شك أن هذه التغيرات الكبيرة في المنهج والسياسة والتنفيذ ستترك معالم طويلة الأمد في وول ستريت وفي مختلف الأسواق المالية الدولية·
يدل رفض مجلس النواب لمشروع بولسون الأولي على شيئين، أولهما اصغاء النواب لأراء المواطنين الذين لم يكونوا متحمسين للمشروع وثانيا قدرة كبيرة على فرض بعض التعديلات في أحلك الظروف العامة· لا شك أن مشروع بولسون معدلا سيصبح حقيقة، أي قانون، لأن البديل غير متوافر ولأن الاقتصاد بحاجة الى ضخ أموال جديدة فيه تعيد الحياة الى الدورة الاقتصادية· المهم أن لا تتكرر الأزمات كل 10 سنوات كما كان يحصل في الماضي، خاصة وأن الاقتصاد الأميركي يعاني من عجزين كبيرين في الموازنة وفي الحساب الجاري يجعلانه ضعيفا وغير قادر على الوقوف في وجه الخضات الداخلية والخارجية·
هنالك تطورات تدعو للعجب ولا يمكن تفسيرها منطقيا بسهولة· من هذه الأمور تحسن سعر صرف الدولار تجاه اليورو والليرة الاسترلينية في وقت يكاد ينهار الاقتصاد الأميركي في شقيه الحقيقي والمالي· تشير الوقائع الى استمرار رغبة الأسواق في شراء النقد الأميركي بالرغم من التطورات المقلقة التي حصلت في الأشهر الماضية· كان من المنتظر أن ترتفع أصوات في المنطقة العربية وخارجها تطالب مثلا بترك الدولرة والذهاب الى نقد آخر أو سلة من العملات· كان هنالك اصرار باطني ونفسي على ابقاء الدولار النقد الدولي الأهم، ربما لعدم اقتناع العملاء الاقتصاديين بالبدائل وربما لأن العادة والتاريخ والمصالح السياسية تقضي باستمرار التبادل بالدولار بالرغم من كل شيء· لا شك أن الاقتصاد العالمي ما زال مرتكزا على الدولار ومرتاحا لوجود الولايات المتحدة كقوة اقتصادية أولى· ما زال العالم غير مقتنع بقوة أوروبا أو الصين أو اليابان أو غيرهم كبديل اقتصادي عن الجبار الأميركي الذي ما زال يتمتع بمزايا سياسية واجتماعية ومؤسساتية فريدة غير موجودة خارجه·
أولا: بالرغم من ضعف الاقتصاد الأميركي، فما زال من نواح عدة أقوى وأفضل من الاقتصاديات المنافسة وذلك بحيويته وحريته وتجدده وقدرته على النهوض من أزمات كبيرة سابقة مر بها· فأوروبا تبقى مشتتة في المؤسسات بالرغم من الجهود العظيمة التي بذلت حتى اليوم· سقوط مشروع الدستور الأوروبي من ايرلندا كان ضربة موجعة لمستقبل الاقتصاد الأوروبي، والبديل غير معروف حتى الآن·
اليابان غير مؤهلة لأخذ الدور الدولي المطلوب لأنها ما زالت غير متعافية تماما من أزمتها المصرفية، كما أنها تتميز بسوء الاستقرار السياسي الذي يسبب تبديل الحكومات خلال فترات قصيرة من الزمن· أما الصين فغير مرغوب بها كقوة اقتصادية عالمية لأنها ما زالت متأخرة في المعايير الانسانية والاجتماعية والسياسية عن الدول الغربية، وبالتالي لا ينظر اليها براحة· لا شك أن الأزمة الغذائية التي سببت موت ومرض أطفال رفع من درجة القلق تجاه الماكينة الانتاجية الصينية المتطورة، من نواحي سلامتها وحسن الرقابة على النوعية· لا شك أن الاقتصاد الأميركي يبقى اقتصاد المؤسسات التي بقيت تعمل في أحلك الظروف، ونقصد هنا المؤسسات السياسية كما الاقتصادية والنقدية وفي طليعتها المصرف المركزي· هنالك تفضيل دولي تجاه الولايات المتحدة مقارنة بالدول الأخرى من الناحية الاقتصادية·
ثانيا: تمسك العديد من الدول بالدولار كنقد دولي أساسي لغياب البديل· فاليورو هو نقد الوحدة الأوروبية المكونة من دول مستقلة أسست مصرفا مركزيا مشتركا ما زال يبني نفسه ويقوي مصداقيته في الداخل والخارج· كان لتردد المصرف المركزي في اتخاذ قرارات بشأن الفوائد التأثير السلبي على قدرته في التحكم بسوق اليورو· لم يستطع المصرف اثبات قوته وتأثيره بعد بالرغم من الظروف العديدة المناسبة· ليس هنالك مرجع سياسي واحد لليورو كما هو حال البيت الأبيض بالنسبة للدولار، وانما مرجعيات متعددة لها مصالح اقتصادية مختلفة· لأسباب مشابهة وربما أخطر وأدق، لا يمكن التوقع من اليابان والصين بأن تلعبا الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة منذ عقود·
ثالثا: معظم السلع الأساسية ما زال يتم تبادلها بالدولار، وبالتالي الحفاظ على الدولار يسهل الأمور لأصحاب العرض والطلب·
نقصد هنا أسواق النفط والذهب ومعظم المواد الغذائية والمعدنية المقيمة بالنقد الأميركي منذ عقود· ما الفائدة من تغيير التقييم علما أن العملات الأخرى ليست أفضل بالمطلق وان ظهرت سليمة اليوم؟ من الضروري أن نؤكد أيضا أن الاقتصاد الأميركي يبقى المستهلك الأول كما المنتج الأول للعديد من السلع والخدمات وبالتالي لا يمكن ترك الدولار من دون الاتفاق مع أميركاعلى بديل واقعي تقبل به ويناسب الآخرين·