في هديه صلى الله عليه وسلم في رقية اللديغ بالفاتحة
أخرجا في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم ، فأبوا أن يضيفوهم ، فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شئ لا ينفعه شئ ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا لعلهم أن يكون عند بعضهم شئ ، فأتوهم ، فقالوا : يا أيها الرهط ! إن سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شئ لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم من شئ ؟ فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقي ، ولكن استضفناكم ، فلم تضيفونا ، فما أنا براق حتى تجعلوا لنا جعلاً ، فصالحوهم على قطيع من الغنم ، فانطلق يتفل عليه ، ويقرأ : الحمد لله رب العالمين ، فكأنما أنشط من عقال ، فانطلق يمشي وما به قلبة ، قال : فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا ، فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنذكر له الذي كان ، فننظر ما يأمرنا ، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له ذلك ، فقال : " وما يدريك أنها رقية ؟ ، ثم قال : قد أصبتم ، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً " .
وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الدواء القرآن " .
ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواص ومنافع مجربة ، فما الظن بكلام رب العالمين ، الذي فضله على كل كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام ، والعصمة النافعة ، والنور الهادي ، والرحمة العامة ، الذي لو أنزل على جبل لتصدع من عظمته وجلالته . قال تعالى : " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " [ الإسراء : 82 ] ، و من ها هنا لبيان الجنس لا للتبعيض ، هذا أصح القولين ، كقوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما " [ الفتح : 129 ] وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فما الظن بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن ، ولا في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور مثلها ، المتضمنة لجميع معاني كتب الله ، المشتملة على ذكر أصول أسماء الرب - تعالى - ومجامعها ، وهي الله ، والرب ، والرحمن ، وإثبات المعاد ، وذكر التوحيدين : توحيد الربوبية ، وتوحيد الإلهية ، وذكر الإفتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة وطلب الهداية ، وتخصيصه سبحانه بذلك ، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق وأنفعه وأفرضه ، وما العباد أحوج شئ إليه ، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم ، المتضمن كمال معرفته وتوحيده وعبادته - بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه ، والإستقامة عليه إلى الممات ، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق ، والعمل به ، ومحبته ، وإيثاره ، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له ، وضال بعدم معرفته له . وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر ، والشرع، والأسماء، والصفات ، والمعاد ، والنبوات ، وتزكية النفوس ، وإصلاح القلوب ، وذكر عدل الله وإحسانه ، والرد على جميع أهل البدع والباطل ، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير مدارج السالكين في شرحها . وحقيق بسورة هذا بعض شأنها ، أن يستشفى بها من الأدواء ، ويرقى بها اللديغ .
وبالجملة فما تضمنته الفاتحة من إخلاص العبودية والثناء على الله ، وتفويض الأمر كله إليه ، والإستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله مجامع النعم كلها ، وهي الهداية التي تجلب النعم ، وتدفع النقم ، من أعظم الأدوية الشافية الكافية .
وقد قيل : إن موضع الرقية منها : " إياك نعبد وإياك نستعين " ، ولا ريب أن هاتين الكلمتين من أقوى أجزاء هذا الدواء ، فإن فيهما من عموم التفويض والتوكل ، والإلتجاء والإستعانة ، والإفتقار والطلب ، والجمع بين أعلى الغايات ، وهي عبادة الرب وحده ، وأشرف الوسائل وهي الإستعانة به على عبادته ما ليس في غيرها ، ولقد مر بي وقت بمكة سقمت فيه ، وفقدت الطبيب والدواء ، فكنت أتعالج بها ، آخذ شربة من ماء زمزم ، وأقرؤها عليها مراراً ، ثم أشربه ، فوجدت بذلك البرء التام ، ثم صرت أعتمد ذلك عند كثير من الأوجاع ، فأنتفع بها غاية الإنتفاع .